الجمعة، 25 يوليو 2014

هل وَكْزُ النبي موسى للقبطي من عمل الشيطان؟!

الأخت (عاتكة) إحدى متابعاتنا في (الخط الساخن للتدبر) تسأل:
استفساري عن قول نبي الله موسى في سورة القصص آية ١٥ حينما وكز القبطي فقضى عليه فقال: (هذا من عمل الشيطان) مع أن نبي الله لم يضربه بنية القتل إنما قضاء الله أن يموت القبطي بهذه الضربة؟
____________________________

الإجابة:

الآية تقول: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)

سنوضح في البدء السياق العام عبر ذكر مقتطف من تفسير الأمثل - (12/ 197):
(موسى دخل المدينة، وهنالك واجه مشادّة ونزاعاً، فاقترب من منطقة النزاع (فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوّه ).
والتعبير بـ «شيعته» يدل على أن موسى قبل أن يبعث كان له أتباع وأنصار وشيعة من بني إسرائيل، وربّما كان قد اختارهم لمواجهة فرعون وحكومته كنواة أساسية.
فلمّا بصر الإسرائيلي بموسى استصرخه (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوّه ).
فجاءه موسى(عليه السلام) لاستنصاره وتخليصه من عدوّه الظالم.. الذي يقال عنه أنّه كان طباخاً في قصر فرعون، وكان يريد من الإسرائيلي أن يحمل معه الحطب إلى القصر، فضرب موسى هذا العدو بقبضة يده القوية على صدره، فهوى إلى الأرض ميتاً في الحال تقول الآية: (فوكزه موسى فقضى عليه ).
وممّا لا شك فيه، فإنّ موسى لم يقصد أن يقتل الفرعوني، ويتّضح ذلك من خلال الآيات التالية أيضاً.. ولا يعني ذلك أن الفراعنة لم يكونوا يستحقون القتل، ولكن لاحتمال وقوع المشاكل والتبعات المستقبلية على موسى وجماعته لذلك فإنّ موسى(عليه السلام) أسف على هذا الأمر (قال هذا من عمل الشيطان إنّه عدوّ مبين ).
وبتعيبر آخر: فإنّ موسى(عليه السلام) كان يريد أن يبعد الفرعوني عن الرجل الإسرائيلي، وإن كان الفرعونيون يستحقون أكثر من ذلك. لكن ظروف ذلك الوقت لم تكن تساعد على مثل هذا العمل، وكما سنرى فإن ذلك الأمر دعا موسى(عليه السلام) إلى أن يخرج من مصر إلى أرض مدين وحرمه من البقاء في مصر.
ثمّ يتحدث القرآن عن موسى(عليه السلام) فيقول: (قال ربّ إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنّه هو الغفور الرحيم ).
ومن المسلم به أنّ موسى(عليه السلام) لم يصدر منه ذنب هنا، بل ترك الأولى، فكان ينبغي عليه أن يحتاط لئلا يقع في مشكلة، ولذلك فإنّه استغفر ربّه وطلب منه العون، فشمله اللطيف الخبير بلطفه).


أما بالنسبة لقوله: (هذا من عمل الشيطان)، فللمفسرين عدة آراء، منها:

-ورد في التبيان في تفسير القرآن (8/ 127):
(وقيل: ان الكناية عن المقتول، فكأنه قال: ان المقتول من عمل الشيطان أي عمله عمل الشيطان).

- أما تفسير الأمثل - (12/ 199):
(ما صدر من موسى(عليه السلام) هو من قبيل «ترك الأولى» لا أكثر، إذ كان عليه أن يحتاط قبل أن يضرب القبطي، فلم يحتط، فأوقع نفسه في مشاكل جانبية، لأنّ قتل القبطي لم يكن أمراً هيناً حتى يعفو عنه الفراعنة.
ونعرف أن ترك الأُولى لا يعني أنّه عمل حرام ذاتاً، بل يؤدي إلى ترك عمل أهم وأفضل، دون أن يصدر منه عمل مخالف ومناف لذلك العمل!).

ثم يضيف تفسير الأمثل - (12/ 200):
«قال هذا من عمل الشيطان» يعني الاقتتال الذي وقع بين الرجل لا ما فعله موسى (عليه السلام) من قتله «إنّه» يعنى الشيطان «عدوّ مضل مبين»

وقريب منه ما ورد في تفسير الميزان (16/ 18):
(وقوله: (قال هذا من عمل الشيطان انه عدو مضل مبين)  الإشارة بهذا إلى ما وقع بينهما من الاقتتال حتى أدى إلى موت القبطي وقد نسبه نوع نسبة إلى عمل الشيطان إذ قال: (هذا من عمل الشيطان)  و (من)  ابتدائية تفيد معنى الجنس أو نشوئية،  والمعنى: هذا الذي وقع من المعاداة والاقتتال من جنس العمل المنسوب إلى الشيطان أو ناش من عمل الشيطان فانه هو الذي أوقع العداوة والبغضاء بينهما وأغرى على الاقتتال حتى أدى ذلك إلى مداخلة موسى وقتل القبطي بيده فأوقعه ذلك في خطر عظيم وقد كان يعلم أن الواقعة لا تبقى خفية مكتومة وأن القبط سيثورون عليه وأشرافهم وملاؤهم وعلى رأسهم فرعون سينتقمون منه ومن كل من تسبب إلى ذلك أشد الانتقام.
فعند ذلك تنبه (عليه السلام)  أنه أخطأ فيما فعله من الوكز الذي أورده مورد الهلكة ولا ينسب الوقوع في الخطأ إلى الله سبحانه لأنه لا يهدى إلا إلى الحق والصواب فقضى أن ذلك منسوب إلى الشيطان).
ثم ينقل تفسير الميزان (16/ 22) رواية عن الإمام الرضا(ع):
 (قال الرضا (عليه السلام) : إن موسى (عليه السلام)  دخل مدينة من مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها وذلك بين المغرب والعشاء فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فقضى على العدو بحكم الله تعالى ذكره فوكزه فمات،  قال: هذا من عمل الشيطان يعنى الاقتتال الذي وقع بين الرجلين لا ما فعله موسى (عليه السلام)  من قتله (انه)  يعنى الشيطان (عدو مضل مبين) .
قال المأمون: فما معنى قول موسى: رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي)؟ قال: يقول: وضعت نفسي غير موضعها بدخول هذه المدينة فاغفر لي أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني فغفر له انه هو الغفور الرحيم.)

-أما صاحب كتاب عصمة الانبياء في القرآن الكريم - (ص: 157):
انّ قوله: (هذا من عمل الشيطان) يحتمل وجهين:
الاَوّل: أن يكون لفظ "هذا" إشارة إلى المناقشة التي دارت بين القبطي والاِسرائيلي وانتهت إلى قتل الاَوّل، وعلى هذا الوجه ليست فيه أيّة دلالة على شيء ممّا يتوخاه المستدل... وقد رواه ابن الجهم عن الاِمام الرضا (عليه السلام) عندما سأله المأمون عن قوله: (هذا من عمل الشيطان) فقال: الاقتتال الذي كان وقع بين الرجلين لا ما فعله موسى من قتله. الثاني: انّ لفظ "هذا" إشارة إلى قتله القبطي، وإنّما وصفه بأنّه من عمل الشيطان، لوجهين:
ألف: انّ العمل كان عملاً خطأً محضاً ساقه إلى عاقبة وخيمة، فاضطر إلى ترك الدار والوطن بعد ما انتشر سره ووقف بلاط فرعون على أنّ موسى قتل أحد أنصار الفراعنة، وأتمروا عليه ليقتلوه، ولولا أنّ مؤمن آل فرعون أوقفه على حقيقة الحال، لاَخذته الجلاوزة وقضوا على حياته، كما قال سبحانه: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فاخْرُجْ إِنّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ)(2) ، فلم تكن لهذا العمل أيّة فائدة فردية أو اجتماعية سوى إلجائه إلى ترك الديار وإلقاء الرحل في دار الغربة "مدين"، والاشتغال برعي الغنم أجيراً لشعيب (عليه السلام).
فكما أنّ المعاصي تنسب إلى الشيطان، قال سبحانه: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الاَنْصابُ وَ الاَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُم تُفْلِحُونَ) فكذلك الاَعمال الخاطئة الناجمة من سوء التدبير وضلال السعي، السائقة للإنسان إلى العواقب المرة، تنسب إليه أيضاً.
فالمعاصي والأَعمال الخاطئة كلاهما تصح نسبتهما إلى الشيطان بملاك أنّه عدو مضل للاِنسان، والعدو لا يرضى بصلاحه وفلاحه بل يدفعه إلى ما فيه ضرره في الآجل والعاجل، ولاَجل ذلك قال بعدما قضى عليه: (هذا من عمل الشيطان انّه عدو مضل مبين) .
ب. انّ قتل القبطي كان عملاً ناجماً عن العجلة في محاولة تدمير العدو، ولو أنّه كان يصبر على مضض الحياة قليلاً لنبذ القبطي مع جميع زملائه في اليم من دون أن توجد عاقبة وخيمة، كما قال سبحانه: (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمينَ))


ودمتم بخير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق